بمثل هذه العبارة نعلم بطلان وفساد علم الكلام؛ لأن من أسباب وجود علم الكلام كما يزعم أصحابه: أن
السلف الصالح والجيل الأول كانوا مشغولين بالجهاد وبالفتوحات، فلم يكن لديهم اهتمام أن تكون العقائد الإيمانية مبنية على البراهين والحجج، فقد كانوا يأخذونها مأخذ التسليم فقط لا بالإقناع المبني على الحجة والبيان والبرهان، وقد كان هذا حال العرب وهم أمة أمية، فلما انتشر الإسلام في الآفاق، واستقرت الفتوحات، وجاءت الأمم بما معها من حضارات ومجادلات وعلوم؛ أصبح لا يكفي التسليم، بل لابد من حجة وبيان، ولابد من إقناع، وهذا الأمر لا يوجد عند الصحابة والتابعين، فقالوا: إذاً لابد من علم الكلام.
ويمثلون لذلك بأن العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام كان الرجل منهم يتكلم بالعربية على السليقة، فلا يلحن ولا يخطئ في كلامه، فلما اختلط العرب بالعجم، وتزوج العرب من الجواري وغير ذلك، أصاب الناس العجمة واللكنة، فاحتاجوا إلى علم النحو، فعلم النحو ليس علماً جديداً، إنما هو وصف وتقرير واستقراء لأمور موجودة وضعت كقواعد يمشي عليها الناس.
فجعلوا علم الكلام مثل علم النحو أو ما أشبهه، فنقول: هذا الكلام باطل ولا حجة له ولا أساس.
وقد سبق أن شرحنا هذا وذكرنا الحيرة والاضطراب الذي وقع فيه
أهل الكلام. فنقول: علم الكلام باطل؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح كان إيمانهم قائماً على الحجة والبرهان والبيان؛ وذلك لأن القرآن نفسه ليس مجرد كلام خطابي يؤمن به من سمعه لأنه يؤمن به؛ بل هو مشتمل على اقوى البراهين وأعظم الحجج، فلا توجد حجة أعظم من الحجج القرآنية، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاءه أحد ليفهم حكماً أو ليتدبر أو ليناظر أو لديه شبهة إلا جلاها له بأقوى حجة تقطع شبهته وتستأصلها من أصلها، وكان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أقوى الناس بياناً وأعظمهم حجة، فما ناظرهم مناظر إلا قطعوا حجته واستأصلوا شبهته، وكذلك كان التابعون، ولهذا لم يقف أحد من أهل البدعة في وجه أحد من
أهل السنة ؛ لا في أيام الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم؛ فقد ناظرهم الإمام
أحمد رضي الله تعالى عنه وأفحمهم، وقد كان بعضهم من
المعتزلة، وبعضهم من
الضرارية، وبعضهم من
البكرية، وبعضهم من
النجارية فرق كثيرة كانت تناظر الإمام
أحمد في مجلس
المعتصم ومن قبله، ومع ذلك أفحمهم الإمام رحمه الله تعالى.
وكذلك ناظر الإمام
الشافعي رحمه الله
حفصاً الفرد، وناظر أيضاً هؤلاء
القدرية وأمثالهم، وكذلك كان
عبد الله بن المبارك و
وكيع و
نعيم بن حماد، وغيرهم ممن لهم صولة وجولة مع أهل البدع.
فلم يكن هذا مجرد تسليم، وإنما كان مبنياً على الحجة والإقناع، ومن ذلك عبارة الإمام
الشافعي التي استطردنا في بيانها، فهي دليل على أن
السلف كانوا يعلمون القواعد الجدلية، وكيف يقنعون الخصم ويلزمونه بالبراهين والحجج، لا بمجرد أن يقال: إن هذا قد ورد، وحسب.. لا شك أن كل ما ورد في الكتاب والسنة فيجب علينا أن نؤمن ونسلم به؛ لكن هل يعني ذلك أنه خال من الحجة والبرهان والبيان؟ كلا. بل ديننا كله براهين، وكل آيات الله تعالى حجج وآيات، ولهذا سمى الله تبارك وتعالى الآية من القرآن التي تبتدئ وتنتهي بفاصلة، سماها آية، وكذلك ما أعطى الله تعالى الرسل من البراهين مثل عصا موسى عليه السلام سماها آية، وكذلك الناقة التي أعطاها صالحاً عليه السلام سماها آية، فقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه آية وسمى تلك آية؛ لأن هذه برهان قاطع وتلك برهان قاطع، فليس الأمر مجرد تسليم لألفاظ أو أساليب خطابية كما يزعم هؤلاء
المتكلمة.